الجبل في وجدان العربي رمزًا للشموخ والصمود، فهو الملجأ والعَلم الذي يُستدل به على الأماكن كما استدل به العرب الأوائل. قالت الشاعرة العربية الخنساء في أخيها صخر مدحًا: 

وإنَّ صَخْرَا لتَأتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ       كَأنَّهُ عَلمٌ فوقَ رأسِهِ نَارُ 

الجبال تضاريس بديعة في تنوعها من الناحية الجمالية، كما أنها عجيبة من حيث تكوينها. تكونت على مراحل عدة بدءًا من غمرها في البحر، حيث كانت من البحر أصلاً، وهنا يرجع سبب قوتها وصلابتها، إذ خُلطت بالماء بعد أن صارت طبقات متعددة من الصخور والرمال، ثم ترسبت هذه الطبقات، إلى أن وصلت مرحلة التجعد، أو ما يسمى بتكوين شكل الجبل، إلى أن انحسر الماء. هذا التكوين يأخذ ملايين السنين ليظهر الجبل على السطح، وكأنه مارد خرج لتوه من قمقمه. كثير من سلاسل الجبال في المملكة العربية السعودية كانت مغمورة في مياه على شكل بحار ثم جفَّت. يدل على ذلك بعض الأحافير والكائنات البحرية المتحجرة في كهوفها. وكما غُمرت هذه الجبال في المحيطات، فإن ظهورها على السطح كان أعجوبة وعلمًا ووقوفًا للشعراء يمر بها شعرهم لتكون خالدة في وجدان العربي شاعرًا كان أو متلقيًا. 

  

جبال شدا 

عُلُوٌّ وشُمُوخٌ 

الأعلى والأسفل هما جبال شدا زينة تهامة. فشدا الأعلى يعد امتدادًا لجبال السروات، ويعد أعلى سهل من سهول تهامة. أما الأسفل فهو أقل ارتفاعًا. وكلاهما يقع في منطقة الباحة بالقرب من محافظة المخواة، جنوب المملكة العربية السعودية. 

شدا له من اسمه نصيب فهو المرتفع، وهو من شدا باسمه الشعراء. قال الشاعر د. محمد الشدوي: 

وكما أن الشعر قد مر عليه ومكث حد أننا لن نستطيع أن نحصر كل ما قيل فيه من شعر، كذلك مرَّ المؤرخون، قدماء ومعاصرون، ومثلما يختلف الشعراء الذين مروا على هذا الجبل وتختلف أزمنتهم كذلك يختلف سكان جبل شدا الأعلى عن جبل شدا الأسفل. فهم من قبيلتين مختلفتين، لكنهم ينتمون إلى هذا الجبل «الشدوي» الذي يمتاز بطبيعة خلابة بدءًا من حيواناتها الفطرية المهددة بالانقراض، وصولاً إلى صخوره الصلدة التي بُنيت منها بيوتٌ شدا أهلها بجمال شدا. 

جَــبَلٌ به عُــمـــْـرُ الصَّــبَا يَـنِــعَا                   وذِكْرُهُ في القَلبِ ما انْقَطَعَا 

 جَـــبَلٌ تَغَـــنَّى فـيه سابِـقُــــنَا                   والقولُ فيهِ ليسَ مُصْطَنِـعَا 

 شَدَا شَدَوتَ فكنتَ مُرْتَفِعًا                 وعَلَيْكَ حَـامَ الطَّــيْرُ مُرْتَفِــعَا 

   

جبال طويق 

هِمَّةٌ وعَزْمٌ 

 تختلف الثقافات، وتتغير اللغة مثل كائن حي، لكن روح العربي تظل معلقة بتضاريس بيئته البديعة التي لا يقوى على الفكاك منها. فهي الحب الأول، حيث المكان أمان وذكرى. فما بالك لو كان المكان جبلاً. من شعراء الفصحى يخرج شعراء النبط بقصائد حول الجبال، ومنها هذا الجبل الأشم الذي يشبه همم أبناء المنطقة. 

جبال طويق التي تطوق إقليم منطقة العارض تتراءى من بعيد للعابرين والمسافرين مثل سور بديع منيع، لكن ما أن يصلوا إليه حتى يبصروا «طويق» الذي يعد جبل اليمامة بلا منازع. 

يقول الشاعر عبدالعزيز المقبل، رحمه الله، وهو من أهالي ضرماء: 

   يا طْويقْ لى شِفْتَك من الشوقْ ونّيتْ                    ونةَ معاقٍ جاريٍ له صَوَاديْف 

   يا طْويقْ يامَا بِكْ طَلَعَتْ وتْمشِّيْتْ                    وسَبَرتْ حَذْرَاتْ ترْب الحَجَارِيف 

         يا طْويقْ يامَا بِكْ لحالي تَمَخْلِيت                       وامْسِيت في رُوسِ الحَجَايا المَشَارِيف 

  يا طْويقْ يامَا بك تَسمَّعَتْ واوْحِيتْ                     وقْش الوعُول مدَاحْمَات المَهَايِيف 

         يا طْويقْ لو لي حِيلةٍ كان عدّيت                       وسجّت النَّفْس في رُوس هاكْ النَّفَانِيف 

 ليس الشعراء والعابرون من المسافرين من يمكنهم رؤية أبعاد هذا الطوق الجبلي المختلف، بل حتى من الفضاء الخارجي يمكن رؤية تضاريس طويق. فهي تضاريس بارزة فريدة بتعرجات الجبل. ولقد ساءل المؤرخ الراحل الشيخ عبدالله بن خميس هذا الجبل في قصيدة بالفصحى «جبل اليمامة الأشم» عن أخبار الأوائل فقال: 

تقع جبال طويق في نجد، إذ تبدأ من منطقة القصيم مرورًا بمنطقة الرياض حتى وادي الدواسر لمسافة 800 كيلومتر. ويصل ارتفاعها إلى 250 مترًا. أما عرضها فيتراوح ما بين 10 كيلومترات إلى 20 كيلومترًا. والسلسلة الجبلية على شكل طوق يحيط بإقليم العارض، وهو يتكون من الصخور الجيرية بتشكيلات غريبة وحادة، وله قمة يضرب بها المثل في قوتها وصعوبة الوصول إليها. كما أن جبال طويق تقطعها الأودية، ويكتسي جزء منها برمال نفود الثويرات. لذا تعد مقصدًا سياحيًا للمتنزهين في معظم فصول السنة. 

يا أيُّهَا العِمْلاقُ زِدْنَا خبرةً                 أقامُوا في ذُرَاكَ مَعَاقِلا 

واقْصُصْ عَلَيْنا اليومَ من أخْبَارِهِم       مَا ثَمَّ مِنْ أحدٍ يجيبُ السَّائِلا 

عن طَسْمِ حدِّثنا وعن جَبَرُوتِها          لمَّا اسْتَبَاحَتْ من جَدِيسٍ عَقَائِلا 

  

جبلا أجا وسلمى 

حب وجمال 

لا يُذكر جبل أجا إلا ويُذكر جبل سلمى معه، فهما جبلان متقابلان، لكن أجا أكبر حجمًا وأكثر ارتفاعًا. ويعد أجا وسلمى رمزًا لقصة حب مشهورة بين شخص يدعى أجا، وامرأة تدعى سلمى. فكانت قصتهما ملهمة للشعراء، كما كان الجبلان ملهمين أيضًا. 

 قال الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة في وصف كتيبة للنعمان بن المنذر: 

 أوَتْ للشِّبَاحِ واهْتَدَتْ بصَلِيلِهَا         كَتَائِبُ خُضْرٌ لَيْسَ فيهنَّ نَاكِلُ 

كَأَرْكَانِ سَلْمَى إِذْ بَدَتْ أو كَأَنَّهَا         ذُرَى أَجَأٍ إِذْ لاحَ فيه مَوَاسِلُ 

لقد ذكَّر الشاعر أجا كون اسم الجبل يعود للعاشق أجا، بينما أنَّث سلمى حيث يعود للمعشوقة سلمى. فكان مرور لبيد بن ربيعة مرورًا لم يخرجه عن سياق الأسطورة وحكاية العشاق. لم تكن تضاريس المكان لدى العرب الأوائل حكرًا على السكنى أو الوقوف عليها كأطلال، إنما هي ملجأ ومنأى ومفر أيضًا. فما بالنا لو كانت جبالاً شُمًّا. عندها ستكون كالصديق الوفي الذي لا يخون من استجار به. 

وفي ذلك قال الشاعر الجاهلي امرؤ القيس في جبال أجا: 

أَبَتْ أَجَا أن تُسَلِّمَ العامَ جَارَهَا      فَمَنْ شَاءَ فَلْيَنْهَضْ لَهَا مِنْ مُقَاتِلِ 

تقع سلسلة الجبلين في منطقة حائل، حيث تقف سلسلة أجا شامخة في الجهة الشمالية الغربية من مدينة حائل، ويبلغ طولها 100 كيلومتر. بينما تقع سلسلة سلمى في الجهة الشرقية الجنوبية. وتمتاز هذه الجبال المحيطة بمدينة حائل بجمال التضاريس وروعة الأساطير، وعمق التاريخ الذي وثَّقَه شعراء المعلقات مثل امرؤ القيس، ولبيد بن ربيعة. 

  

جبل القارة 

غُمُوضٌ وتوقُّد 

مهما كانت الجبال عصية إلا أنها تظل ملهمة للشعراء، فهم مكتشفو جمالها قبل المغامرين. هم من يخَلِّدون تلك الأجواء البديعة فيها، يقول الشاعر محمد العلي في جبل القارة: 

 فيها الجبالُ التي في قارةٍ عُرِفَتْ      بِبَرَدِ صَيْفٍ إذَا ما لاحَ أوْ وَثَبَا 

يقع جبل القارة في محافظة الأحساء. يبعد عن الهفوف مسافة 13 كيلومترًا. وهو جبل صغير منقطع عن غيره من الجبال. ومن هنا جاء اسمه، بحسب المعاجم. لكن للجبل اسم آخر قديم وهو «أبا الشبعان» كما ذكره عدد من المؤرخين. ولقد ورد ذكر «أبا الشبعان» في عدد من قصائد الشعراء قديمًا وحديثًا. قال فيه عمرو بن أحمر الباهلي: 

أبا الشبعانُ، بَعْدَكَ، حَرَّ نَجْدٌ             وأبطحُ بطنُ مكةَ حيثُ غَارَا 

يتكون الجبل من صخور رسوبية، ويشتمل على عدد من الكهوف، أو ما يسمى المغارات التي تمتاز ببرودة الجو حتى في فصل الصيف شديد الحرارة، ما جعل جبل القارة متنفسًا وملاذًا لزائري المنطقة، وملهمًا للشعراء على مر الزمن، حيث مر به الشعر ولم يغادره. 

x
You are looking for