تُرى ألدينا الجُرأة كي نكتب رواية عن عائلاتنا؟ عن خمسة أجيال سبقت جيلنا الحالي؟ أيمكننا الصمود أمام الحقائق؟ أم تُكلّفنا المواجهة انكسارًا لا يزول؟
لقر تُرى ألدينا الجُرأة كي نكتب رواية عن عائلاتنا؟ عن خمسة أجيال سبقت جيلنا الحالي؟ أيمكننا الصمود أمام الحقائق؟ أم تُكلّفنا المواجهة انكسارًا لا يزول؟
لقراءة المُراجعة كاملة مُنسّقة مُطعّمة بالصور يُرجى قراءة المُراجعة على موقع عالم موازٍ
لكل عائلة أسرارها. خفايا مدونة في سِجلّ غير مكتوب، مطبوعة في عقول وقلوب أفرادها. تتحاكى بها ألسنتهم في الليالي المُقمرة على ضوء الذكريات. كل فرد في كل أسرة له حقٌ معلوم. يتعاظم أو يتضاءل مع تناقل الأجيال لحكايات الماضي. ومع انقسام آراء الرواة تبهت الحقيقة وتتلوّن بلون المُبالغة تهويلًا أو تصغيرًا. ومع تقدّم الزمن تذوب الحقائق في جوف أساطير يتوارثها جيل بعد جيل، يتمسّك بها بعضهم خشية فقدان الهويّة، ويسخر منها بعضهم بغية التخلص من إرثٍ ثقيل. ويبقى القليل... فقط القليل؛ هم من يعرفون بخشوع أن الحقيقة لا يدركها سوى من يبحث عنها عارية
تفاصيل تصنعنا!
رواية "ورثة آل الشيخ" للكاتب أحمد القرملاوي، هي رواية مصرية بامتياز مليئة بتفاصيل الناس البسيطة وانعكاسات الزمن عليها خلال خمسة عقود دون إسهاب. مُفعمة بتفاصيل المُدن والمناطق والحارات والأزقّة. نعيش في واقع حيّ الجمّالية بمصر القديمة، ونزور مُبتهجين حيّ مصر الجديدة بأناقة ساكنيها. ونعرج إلى الريف أرض الفلاحين وأصل الحياة ونرى البلدة مهد الأسطورة في عهدة نعمات القوية آخر أوتاد العائلة. ثم نرحل بالقطار إلى حلوان على أطراف القاهرة في رحلات متواصلة، لكنها أبدًا لا تكون في حلاوة رحلات نشأت إلى مدينة بورسعيد.
قد تكون كثرة التفاصيل لها جانب سلبي على قدرة القارئ على الإلمام أثناء رحلة قراءته الرواية، لكن بعد كل توقف أو حتى بعد الانتهاء من القراءة، ومع قليل من التفكّر ومحاولة هضم ما قرأناه، نمتن إلى مثل تلك التفاصيل الدقيقة التي تسبح في سياق الأحداث فتعطيها عُمقًا يتخفّى بين السطور. وندرك أن بدون تلك التفاصيل تبقى الأحداث شاحبة كسماء بلا زُرقة وغابات بلا اخضرار.
خمسة أجيال متتابعة، تبدأ بالجدّ "الشيخ" وتنتهي بالراوي "أحمد" الذي يرغب في كتابة رواية تحكي تاريخ عائلته، فيبحث عن تفاصيل كثيرة في ذكريات من حوله، ويكاد يشعر أثناء رحلته أن هذه الذكريات التي يلملمها تصنع ذاته من جديد، وكأن توثيق الأحداث وكتابتها ترسّخ وجوده في أرض الوطن وتنفي أي احتمالٍ جديد لتسرّب الحقيقة في مجرى الزمن.
الشخصيات
شخصيات رواية "ورثة آل الشيخ" مُفعمة بالحياة. تستقل كلٌ منها بطابعها شديد الخصوصية. أغلب الشخصيات بسيطة وواضحة، وقليل منها ذات طبع رمادي في عيون الآخرين! قد يعجز القارئ عن اتخاذ موقف محدد تجاه بعض الشخصيات. وأرى أن هذا قد جاء مُنسجمًا مع استقصاء البطل ومحاولة استكشافه لحقيقة هويّات أفراد عائلته من خلال مصادر تتباين آرائهم وذكرياتهم عن أولئك الأفراد.
لكن مهما كان موقفك؛ فإنه لن يمنعك من التعلّق بالشخصيات المُحاكة بمهارة وتمكّن وإحكام. صدقي بيك، حسين، زبيدة، حسن، نشأت، نعمات، فاضل أفندي.
قد ينتابك إحساسًا بأنك قد قابلتهم من قَبل في حياتك، بعد أن بِتَّ تعرف أسرار بيت الخرُنفِش، وصرت مُطّلعًا على خفايا حياتهم فيه. بالتأكيد ستشعر بافتقادهم عندما تنتهي الرواية. وسيصعب عليك فراقهم بعد رحلة جميلة جمعتك بهم، أو لعلها العِشرة التي ألّفَتْ بينكم في ضَفتّي كتاب.
السرد واللغة
أسلوب السرد في الرواية يميل إلى أسلوب الواقعية السحرية الذي يعتمد على اللهجة السردية الهادئة البعيدة عن المُحسّنات، وقد نجح الكاتب في تقديم تجربة سردية سلسلة بسيطة ممتعة. ومن الواضح تأثّر الكاتب بأسلوب الأديب الكبير نجيب محفوظ. ولابد أن القارئ سيشعر بروح محفوظ -الساكنة في قلم القرملاوي- تجوب في أثير صفحات الرواية. ورغم ذلك إلا أن الكاتب قد نجح بكفاءة في الاحتفاظ بشكل مُستقل مميز للنص حتى ولو كانت به لمحة محفوظية.
من أجمل الأشياء التي لاحظتها واستمتعت بها؛ حرص الكاتب على اختيار الألفاظ والتعبيرات المُناسبة لكل حقبة زمنية، وبرع في تطريز النبرات واللهجات وبعض المصطلحات الدارجة؛ في بنية النص لتمنح كل حقبة خصوصية تتفرد بها مما يسهل على القارئ الاندماج معها.
لُغة الكاتب أحمد القرملاوي جاءت فصيحة أنيقة جزلة. حقًا شيء يستحق الإشادة
سلبيات الرواية
واجهت مشكلة في الرواية بكثرة التفاصيل وتداخلها رغم حجم القصة المتوسط. الرواية تصلح لأن تكون عملًا أضخم من حجمها الحالي. وشعرت كثيرًا بأحداث وتفاصيل مضغوطة لم تأخذ حقها في السرد فجاءت متتابعة لا تثبت -رغم روعتها- في نفس القارئ. في رأيي أن هذه السرعة قد أضرّت النص وجعلتنا نهرع لاهثين وراء أحداث تمنيّنا وجود وقت كافٍ لمعايشتها على صفحات الرواية.
التنقل بين الحقب الزمنية وأسلوب الفلاش باك جاء مُرهقًا، ووجدتني -خاصة في البداية- لا أميّز بين الحاضر والماضي مما جعلني أشعر بالضياع في بعض الأحيان. لكنني بدأت أعتاد عليه في النصف الثاني من الرواية خاصة بعد أن فهمت أسلوب التتابع الذي وظّفه الكاتب في سرده.
لا أعرف لماذا شعرت بأنني مُنفصلٌ عن زمن الحاضر في الرواية. منذ الصفحة الأولى وحتى الأخيرة أشعر وكأنه غير متجانس مع بقية أحداث الرواية. لا أقصد توظيفه فهو مُوظف بشكل متناسق مع ما قبله. لكن وعلى الرغم من محاولة الكاتب تطعيم أحداث هذه الحِقبة (الحاضر) بألفاظ مُعاصرة أو معالم حديثة أو أدوات عصرية مثل تطبيقات التواصل الاجتماعي واستخدام لوحة المفاتيح في الهاتف والرموز التعبيرية. إلا أنني فشلت في أن أندمج فيها.
قد يكون ذلك بسبب حالة الإحباط أو التيه التي شوّبت حقبة الحاضر رغم تفاصيلها الممتازة وسردها المُتقَن. أو قد تكون السحر الذي سكن سرد الحِقَب السابقة قد فتنني، وكأن جمال السرد وقوته في سرد أحداث الماضي كان له قوة عارمة قطعت عنّي أي تواصل مع ما يخص الواقع المُعاصر في الرواية.
وتبقى هذه النقطة الأخيرة نقطة شخصية، فمن يدري؛ لعل هذا الجزء قد لامس وجعًا ما في نفسي أحاول أن أختبئ منه!
اقتباسات
جيل يحصد ما أنتجه السَّلف.. نحن الجيل الحاص يا أبتاه، نحصد كل شيء؛ ليس المال فقط، ولا الأرض، ولا البيوت، بل الهزيمة.. وغِمامات الأعين، والهتاف الضائع في الفراغات
عالمي يهرع إلى الخلف، لا يمكنني الإمساك به، كل ما أستطيعه هو النظر إليه عبر زجاج القطار الأصمّ؛ البيوت الشائهة تتكاثر، حالها حال البشر، مياه النيل تغور حتى تمسي لا مرئية، القمامة ترتفع كأنها علامات الطريق.. لا أعرف شيئًا يربطني بهذا العالم الممسوخ، إلا حاجتي للكتابة عنه.. هل ثمة رابط آخر لا أدركه؟ يمكن، ولا سبيل أمامي لاكتشافه غير الكتابة
ندفن موتانا كي لا نتعذّب بتهديدهم لوجودنا المُفعم بالحياة
ليتني أموت الآن مثلما ماتوا، فأتفادى ما يتربّص بي من مفاجآت. القدر يختبئ خلف الزوايا، خلف جذوع الشجر، تحت الصخور وبين شواشي النخل
في جيب ذاكرتي ثقب آخذ في الاتساع، ترتقه الصور القديمة
جميلة لا تزال.. أحبها كثيرًا من خلف الزجاج
على الهامش
1- غُلاف الرواية جاء مميزًا وهو من تصميم الفنان كريم آدم
2- أعجبتني بعض التفاصيل مثل تفصيلة دار كسوة الكعبة ومراسم انتقالها في موسم الحجيج، ومثل وصف حلوان البعيدة ذات الشوارع الفسيحة. ومثل ذِكر متجر "سيموت آرزت" في مدينة بورسعيد والذي زُرته بنفسي في أواخر أيامه قبل إغلاقه.
التقييم النهائي
رواية "ورثة آل الشيخ" هي رواية عن الكنز والأسطورة، عن الحُب والفَقد، عن الانتصارات الصغيرة والهزائم المدوّية، عن الصراعات الخَفيّة والمُعلَنة، عن مآلات الأحوال وتبدّل الزمن، عن القصص الصغيرة التي تصنعنا؛ وتفاصيلها التي تحكينا... هي رواية قليل فيها مِنّا وكثير مِنّا فيها!
تقييمي النهائي
أربع نجوم
أحمد فؤاد التاسع من تشرين الأول أكتوبر 2020
Merged review:
تُرى ألدينا الجُرأة كي نكتب رواية عن عائلاتنا؟ عن خمسة أجيال سبقت جيلنا الحالي؟ أيمكننا الصمود أمام الحقائق؟ أم تُكلّفنا المواجهة انكسارًا لا يزول؟
لقراءة المُراجعة كاملة مُنسّقة مُطعّمة بالصور يُرجى قراءة المُراجعة على موقع عالم موازٍ
لكل عائلة أسرارها. خفايا مدونة في سِجلّ غير مكتوب، مطبوعة في عقول وقلوب أفرادها. تتحاكى بها ألسنتهم في الليالي المُقمرة على ضوء الذكريات. كل فرد في كل أسرة له حقٌ معلوم. يتعاظم أو يتضاءل مع تناقل الأجيال لحكايات الماضي. ومع انقسام آراء الرواة تبهت الحقيقة وتتلوّن بلون المُبالغة تهويلًا أو تصغيرًا. ومع تقدّم الزمن تذوب الحقائق في جوف أساطير يتوارثها جيل بعد جيل، يتمسّك بها بعضهم خشية فقدان الهويّة، ويسخر منها بعضهم بغية التخلص من إرثٍ ثقيل. ويبقى القليل... فقط القليل؛ هم من يعرفون بخشوع أن الحقيقة لا يدركها سوى من يبحث عنها عارية
تفاصيل تصنعنا!
رواية "ورثة آل الشيخ" للكاتب أحمد القرملاوي، هي رواية مصرية بامتياز مليئة بتفاصيل الناس البسيطة وانعكاسات الزمن عليها خلال خمسة عقود دون إسهاب. مُفعمة بتفاصيل المُدن والمناطق والحارات والأزقّة. نعيش في واقع حيّ الجمّالية بمصر القديمة، ونزور مُبتهجين حيّ مصر الجديدة بأناقة ساكنيها. ونعرج إلى الريف أرض الفلاحين وأصل الحياة ونرى البلدة مهد الأسطورة في عهدة نعمات القوية آخر أوتاد العائلة. ثم نرحل بالقطار إلى حلوان على أطراف القاهرة في رحلات متواصلة، لكنها أبدًا لا تكون في حلاوة رحلات نشأت إلى مدينة بورسعيد.
قد تكون كثرة التفاصيل لها جانب سلبي على قدرة القارئ على الإلمام أثناء رحلة قراءته الرواية، لكن بعد كل توقف أو حتى بعد الانتهاء من القراءة، ومع قليل من التفكّر ومحاولة هضم ما قرأناه، نمتن إلى مثل تلك التفاصيل الدقيقة التي تسبح في سياق الأحداث فتعطيها عُمقًا يتخفّى بين السطور. وندرك أن بدون تلك التفاصيل تبقى الأحداث شاحبة كسماء بلا زُرقة وغابات بلا اخضرار.
خمسة أجيال متتابعة، تبدأ بالجدّ "الشيخ" وتنتهي بالراوي "أحمد" الذي يرغب في كتابة رواية تحكي تاريخ عائلته، فيبحث عن تفاصيل كثيرة في ذكريات من حوله، ويكاد يشعر أثناء رحلته أن هذه الذكريات التي يلملمها تصنع ذاته من جديد، وكأن توثيق الأحداث وكتابتها ترسّخ وجوده في أرض الوطن وتنفي أي احتمالٍ جديد لتسرّب الحقيقة في مجرى الزمن.
الشخصيات
شخصيات رواية "ورثة آل الشيخ" مُفعمة بالحياة. تستقل كلٌ منها بطابعها شديد الخصوصية. أغلب الشخصيات بسيطة وواضحة، وقليل منها ذات طبع رمادي في عيون الآخرين! قد يعجز القارئ عن اتخاذ موقف محدد تجاه بعض الشخصيات. وأرى أن هذا قد جاء مُنسجمًا مع استقصاء البطل ومحاولة استكشافه لحقيقة هويّات أفراد عائلته من خلال مصادر تتباين آرائهم وذكرياتهم عن أولئك الأفراد.
لكن مهما كان موقفك؛ فإنه لن يمنعك من التعلّق بالشخصيات المُحاكة بمهارة وتمكّن وإحكام. صدقي بيك، حسين، زبيدة، حسن، نشأت، نعمات، فاضل أفندي.
قد ينتابك إحساسًا بأنك قد قابلتهم من قَبل في حياتك، بعد أن بِتَّ تعرف أسرار بيت الخرُنفِش، وصرت مُطّلعًا على خفايا حياتهم فيه. بالتأكيد ستشعر بافتقادهم عندما تنتهي الرواية. وسيصعب عليك فراقهم بعد رحلة جميلة جمعتك بهم، أو لعلها العِشرة التي ألّفَتْ بينكم في ضَفتّي كتاب.
السرد واللغة
أسلوب السرد في الرواية يميل إلى أسلوب الواقعية السحرية الذي يعتمد على اللهجة السردية الهادئة البعيدة عن المُحسّنات، وقد نجح الكاتب في تقديم تجربة سردية سلسلة بسيطة ممتعة. ومن الواضح تأثّر الكاتب بأسلوب الأديب الكبير نجيب محفوظ. ولابد أن القارئ سيشعر بروح محفوظ -الساكنة في قلم القرملاوي- تجوب في أثير صفحات الرواية. ورغم ذلك إلا أن الكاتب قد نجح بكفاءة في الاحتفاظ بشكل مُستقل مميز للنص حتى ولو كانت به لمحة محفوظية.
من أجمل الأشياء التي لاحظتها واستمتعت بها؛ حرص الكاتب على اختيار الألفاظ والتعبيرات المُناسبة لكل حقبة زمنية، وبرع في تطريز النبرات واللهجات وبعض المصطلحات الدارجة؛ في بنية النص لتمنح كل حقبة خصوصية تتفرد بها مما يسهل على القارئ الاندماج معها.
لُغة الكاتب أحمد القرملاوي جاءت فصيحة أنيقة جزلة. حقًا شيء يستحق الإشادة
سلبيات الرواية
واجهت مشكلة في الرواية بكثرة التفاصيل وتداخلها رغم حجم القصة المتوسط. الرواية تصلح لأن تكون عملًا أضخم من حجمها الحالي. وشعرت كثيرًا بأحداث وتفاصيل مضغوطة لم تأخذ حقها في السرد فجاءت متتابعة لا تثبت -رغم روعتها- في نفس القارئ. في رأيي أن هذه السرعة قد أضرّت النص وجعلتنا نهرع لاهثين وراء أحداث تمنيّنا وجود وقت كافٍ لمعايشتها على صفحات الرواية.
التنقل بين الحقب الزمنية وأسلوب الفلاش باك جاء مُرهقًا، ووجدتني -خاصة في البداية- لا أميّز بين الحاضر والماضي مما جعلني أشعر بالضياع في بعض الأحيان. لكنني بدأت أعتاد عليه في النصف الثاني من الرواية خاصة بعد أن فهمت أسلوب التتابع الذي وظّفه الكاتب في سرده.
لا أعرف لماذا شعرت بأنني مُنفصلٌ عن زمن الحاضر في الرواية. منذ الصفحة الأولى وحتى الأخيرة أشعر وكأنه غير متجانس مع بقية أحداث الرواية. لا أقصد توظيفه فهو مُوظف بشكل متناسق مع ما قبله. لكن وعلى الرغم من محاولة الكاتب تطعيم أحداث هذه الحِقبة (الحاضر) بألفاظ مُعاصرة أو معالم حديثة أو أدوات عصرية مثل تطبيقات التواصل الاجتماعي واستخدام لوحة المفاتيح في الهاتف والرموز التعبيرية. إلا أنني فشلت في أن أندمج فيها.
قد يكون ذلك بسبب حالة الإحباط أو التيه التي شوّبت حقبة الحاضر رغم تفاصيلها الممتازة وسردها المُتقَن. أو قد تكون السحر الذي سكن سرد الحِقَب السابقة قد فتنني، وكأن جمال السرد وقوته في سرد أحداث الماضي كان له قوة عارمة قطعت عنّي أي تواصل مع ما يخص الواقع المُعاصر في الرواية.
وتبقى هذه النقطة الأخيرة نقطة شخصية، فمن يدري؛ لعل هذا الجزء قد لامس وجعًا ما في نفسي أحاول أن أختبئ منه!
اقتباسات
جيل يحصد ما أنتجه السَّلف.. نحن الجيل الحاص يا أبتاه، نحصد كل شيء؛ ليس المال فقط، ولا الأرض، ولا البيوت، بل الهزيمة.. وغِمامات الأعين، والهتاف الضائع في الفراغات
عالمي يهرع إلى الخلف، لا يمكنني الإمساك به، كل ما أستطيعه هو النظر إليه عبر زجاج القطار الأصمّ؛ البيوت الشائهة تتكاثر، حالها حال البشر، مياه النيل تغور حتى تمسي لا مرئية، القمامة ترتفع كأنها علامات الطريق.. لا أعرف شيئًا يربطني بهذا العالم الممسوخ، إلا حاجتي للكتابة عنه.. هل ثمة رابط آخر لا أدركه؟ يمكن، ولا سبيل أمامي لاكتشافه غير الكتابة
ندفن موتانا كي لا نتعذّب بتهديدهم لوجودنا المُفعم بالحياة
ليتني أموت الآن مثلما ماتوا، فأتفادى ما يتربّص بي من مفاجآت. القدر يختبئ خلف الزوايا، خلف جذوع الشجر، تحت الصخور وبين شواشي النخل
في جيب ذاكرتي ثقب آخذ في الاتساع، ترتقه الصور القديمة
جميلة لا تزال.. أحبها كثيرًا من خلف الزجاج
على الهامش
1- غُلاف الرواية جاء مميزًا وهو من تصميم الفنان كريم آدم
2- أعجبتني بعض التفاصيل مثل تفصيلة دار كسوة الكعبة ومراسم انتقالها في موسم الحجيج، ومثل وصف حلوان البعيدة ذات الشوارع الفسيحة. ومثل ذِكر متجر "سيموت آرزت" في مدينة بورسعيد والذي زُرته بنفسي في أواخر أيامه قبل إغلاقه.
التقييم النهائي
رواية "ورثة آل الشيخ" هي رواية عن الكنز والأسطورة، عن الحُب والفَقد، عن الانتصارات الصغيرة والهزائم المدوّية، عن الصراعات الخَفيّة والمُعلَنة، عن مآلات الأحوال وتبدّل الزمن، عن القصص الصغيرة التي تصنعنا؛ وتفاصيلها التي تحكينا... هي رواية قليل فيها مِنّا وكثير مِنّا فيها!
سمكة حمراء تُطالعنا من داخل حوضها الصغير، وحيدة وسط سكون مُطمئن مصبوغ بلون البحر. أهناك فخُّ ألطف من ذلك؟! قرار سهل
مُراجعتي الكاملة بشكل مُنسّق مع الصو سمكة حمراء تُطالعنا من داخل حوضها الصغير، وحيدة وسط سكون مُطمئن مصبوغ بلون البحر. أهناك فخُّ ألطف من ذلك؟! قرار سهل
مُراجعتي الكاملة بشكل مُنسّق مع الصوّرعلى موقع عالم موازٍ على هذا الرابط
رواية قصيرة (نوڤيلا)… قرار سهل للقارئ كي يخوض تجربة قراءة جديدة دون الانخراط في نص طويل يصعب التخلص منه إن لم يعجبه. لكن بمجرد القراءة تتبدّد هذه الفكرة تمامًا. من الصعب التخلّص من أفكار جادة تشغل حيزًا من تفكيرك بشكل أو بآخر.
-----
التكثيف المُستفيض!
ربما للوهلة الأولى نظن أن الكاتبة حشرت عدة موضوعات في نص قصير. لكن إن تَمَعّنّا النص وقرأنا الشخصيات جيدًا سندرك أن كل منها لها أحاسيسها المُركَّبَة والمُتشابكة. وهذا التشابك والتعقيد هو جزء أصيل في تركيب كل شخصية. أيضًا الشذرات المُقتبسة من أبيات شعر أو مقولات، هي لبنة جوهرية في شخصية البطلة. هذا المستوى من التعقيد النفسي البشري هو في الحقيقة ما يصنع فردانية الإنسان، وهو ما يجعلنا نفهم دوافع تصرفاته حتى وإن لم نفهم تفسيراتها! شخصيات الرواية شخصيات مُركّبة، ليست سوداء ولا بيضاء وربما ليست رمادية جدًا!!!
نحن أمام نصّ مُكثّف مُتعدد الطبقات، متشابك الصراعات، متداخل الأساليب؛ على مستوى الحوار والألفاظ والمعاني، وما هو مخفيّ بين السطور.
من الصعب إيجاد لفظ يوضح ما أقصده. ربما مصطلح”التكثيف المستفيض!“ -إن جاز التعبير- يفي بالغرض!
-----
كشف حساب التجارب الأولى!
"خولة" الأم الغارقة في صراعات نفسية فرضتها عليها ظروف مختلفة: اجتماعية وسياسية وثقافية. تسلط بُثينة العيسى الضوء على لمحة من ظروف متعددة مرّت على بطلتها. وبعدما تهدأ أمواج الحياة المتلاطمة، وتسكن حياة خولة، يكون الوقت قد حان لرؤية أوضح لما كان مغمورًا في خضم رحلة العيش.
كشف حساب التجارب الأولى في الأمومة والعمل واللقاءات الثقافية والتليفزيون. تلك التجارب المليئة بالانفعال والمبالغة في ردود الأفعال. إنها المحاولات التي يشوبها ضعف الخبرة، وحلاوة الأحلام التي لم ترتطم بالواقع بعد. والتي تخضع بشكل أو بآخر بتأثرنا بالمجتمع وعاداته وتقاليده. إن التجارب الأولى هي الأساس التي تُبنى عليها خبرتنا اللاحقة في الحياة، لكن كل شيء له ثمن. وثمن إنقاذها لابنها -في تقديرها للأمور- هو سبب ما تعانيه من وحدة!
يختلف المنظور مع الأبناء سواء ناصر أو يوسف أو حمد. كل منهم بحسب عُمره. يختلف منظور كل ابن منهم ومدى إرهاقه ومشاكله مع خولة، حيث يرتبط عكسيًا بتجارب خولة وتطورها. فأر التجارب الأول كان ناصر، بينما كان الوضع أفضل مع يوسف، ويليه حمد.
----- منطقة الانكسار!
تقع عذابات أغلب البشر في المنطقة ما بين ”أنا أفعل ذلك من أجلك، وستفهم دوافعي عندما تكبر“ وبين ”أنت لم تفعل ذلك من أجلي، بل من أجلك أنت“. هذه هي منطقة الصمت عن كل تبرير لأفعالنا تجاه أطفالنا. نشعر بالمسؤولية تجاههم ونتخذ قرارات مصيرية لإنقاذهم من مصائر بعضها حقيقي وأغلبه ليس كذلك، دون أن نقدم تفسيرًا واضحًا لهم. ننتظر أن يفهموا بشكل تلقائي في يوم ما، ولكن وأثناء انتظارنا نتركهم في براثن الضلالات والتأويلات المغلوطة، دون أن يخطر على بالنا سؤال هام: ماذا إن لم يفهموا دوافعنا في اليوم المنتظر؟!
يدور الإنسان مهما كبر ونضج وشاخ في دائرة مغلقة من المشاعر المُعلّقة من حقبة الماضي إن لم يجد لها تفسيرًا يشعره بأنه شخص يستحق. لكن بعد وقوع الضرر، لا تفسيرات تفلح ولا اعتذارات تجدي. هذه هي المعادلة يجب أن ننظر بها إلى النص ونقيس دوافع الشخصيات بها.
----- الصراع داخلك أنت!
لا تتورط بُثينة العيسى في هذا التوتر الذي خلقته في نصّها. تدور كاميرا بُثينة الأدبية وسط دويّ صمت الاتهامات المتبادلة الذي يصمّ آذاننا. تاركة التأثير المُتراكم البادي على تصرفات شخصياتها يورطنا في دوامات أخلاقية لإصدار أحكامنا الشخصية على أصحاب الصراع!
من يتفق مع خولة في بعض أو أغلب تصرفاتها؟ تُرى أهي من سممت حياة ناصر؟ أم أن ناصر هو من انتحر معنويًا كمُكافأة بغيضة لخولة؟ أم تُرى يوسف هو من يُحرّك خيوط الصراع بشكل خفي؟ أو لعلّه حمد من يسخر منهم جميعًا؟
تضعك الكاتبة في هذه المُعضلة الأخلاقية وهي تعلم أنك ستستنكر وتستاء وتمتعض وتتعاطف وتتفهّم وترأف. فأنت بلا شك ستجد في كُلٍ منهم بعضًا منك!
----- كبسولة زرقاء أم حمراء!
قصتنا هنا قصة قصيرة ربما مشهد طويل واحد يتضمن بعض مشاهد من الذاكرة (Flashback) . وكأنني أرى النص كبسولة صغيرة مضغوطة. يتناولها القارئ بكل براءة مؤمنًا بقدرته الحكيمة على التفاعل معها. لكنه وقبل أن يدرك سذاجته، يكون أثر النص قد تمدّد داخل نفسه بشكل سرطاني. ينتزعه بقسوة من منطقته الآمنة المُزيّفة، ويحرمه من نعيم الاعتقاد بأنه خارج دائرة الهَمّ الإنساني المُشترَك!
في الواقع نحن القُرّاء نجازف مع كل نص جديد نقرؤه. وكأننا نمارس لعبة الروليت الروسية. لا ندري إن كان النص المقروء سيصيب أرواحنا في مقتل أم سيمرّ فارغًا بلا تأثير على النفس. المشكلة في لعبة الاحتمالات أننا في الوقت الذي نعرف فيه نتيجة اللعبة تكون إصابتنا قد باتت بليغة!
اقتباسات
إن أسوأ ما يمكن أن يحدث للأطلال هو ألا يبكي عليها أحد
بل إنها لجأت إلى الحُجَّة المُبتذلة التي يستخدمها كل من يحاول النفاذ إلى مُثقّف عانى إحساسًا بالإهمال: الساحة تفتقد صوتكِ، في تلميح خبيث ومدروس إلى ضرورة وجود المُثقَف في الميدان
كان وجهها قد انغمس في حُزنٍ داكن، وشعرت بأنها شاخت عقدًا في دقيقتين
----
التقييم النهائي
على مدار مئة صفحة نقبع تحت قصف القذائف المُستمرة بلا هوادة لتكشف عن كل الخراب الكائن والمُستتر خلف أقنعتنا المُزيفة.
ومع ذلك، فإن من تأثّر بنص بُثينة العيسى في روايتها ”دار خولة“ ربما سيقع في حيرة من أمره عند محاولة تفسير الشعور الذي خلّفته كلماتها في نفسه. قد لا يدري حينها إن كان من المفترض أن يثمل باستعذاب وطأة تأثير النص على النفس، أم يندم كونه لم يكن مستعدًا لهذا القَدْر من الحقيقة المُرّة؛ حقيقة عوار المجتمع والروابط الإنسانية والوطن!
لم أتوقع أن تعصف بي هذه الرواية القصيرة بكل هذا العنف!
مع هذا المستوى من النضج الأدبي لقلم بثينة العيسى، صرت أترقب جديدها بحماس مشوّب بالقلق! وكيف لا وحروفها دومّا تنكأ الجرح.
رواية ”دار خولة“ إضافة مميزة للأدب العربي المُعاصر.
تقييمي للرواية خمس نجوم ⭐️⭐️⭐️⭐️⭐️
معيار التقييم: نجمة = لم يعجبني - نجمتان = مقبول - 3 نجوم = أعجبني - 4 نجوم = أعجبني بشدة - 5 نجوم = استثنائي
تعجبني الروايات المكتوب في شكل رسائل. لها في نفسي وقع مُحبب. لهذا فقد أحببت أسلوب السرد في هذه الرواية.
روان الم هدايا القدر تأتي أحيانًا مُفخَّخة!
----
تعجبني الروايات المكتوب في شكل رسائل. لها في نفسي وقع مُحبب. لهذا فقد أحببت أسلوب السرد في هذه الرواية.
روان المسجونة في سجن تشارنورث الاسكتلندي للنساء. تكتب رسالة إلى المحامي الشهير ريكسام، في محاولة أخيرة لإثبات براءتها من تهمة القتل التي ثبتت عليها.
تحكي روان عن بداية هذه الأحداث التي تسببت في أن تكون خلف أسوار السجن. تحاول أن تشرح وجهة نظرها كاملة للمحامي مكتوبة ومشفوعة بكل تبريراتها التي لم يستمع إليها محاميها السابق أو المحققين المسؤوليين عن قضيتها.
ومع رحلة روان نبدأ في التعرف على عالمها البارد الذي حاولت بكل طريقة الخروج منه.
تأتي هدية القدر لها في شكل وظيفة لا تحلم بها. ولا تتردد روان في استقبالها والموافقة عليها. تخطو خطوتها الأولى إلى بوابة النعيم المفتوحة على مصراعيها دون أن تدري أنها البوابة ذاتها المكتوب على لافتتها كلمة النهاية.
نجحت الكاتبة في خلق جو من الإثارة والغموض، حيث استطاعت أن تخلق نوع من الترقّب في نفس القارئ. مما يجعلنا نستمر في القراءة مهما قابلتنا بعض المُنغصات في الرواية.
كعادة دور النشر والصحف الأمريكية، جاءت المبالغات على صدر الكتاب. أرى أن هذا أتى بأثر سلبي على تقبّل القارئ للرواية. بعد أن وعدته هذه المبالغات بأن بين يديه رواية مخيفة ومثيرة بشكل استثنائي. هذا غير أنها وصفت روث وير بأنها هي أجاثا كريستي جيلنا! (حقًا!)
الرواية فعلًا بها الكثير من الإثارة ولحظات التوتر. وربما بها لمسة مخيفة بين ثنايا الأحداث. لكن لا يمكننا أن نعتبر أن هذا أمر استثنائيًا. أيضًا الرواية بها الكثير من الإسهاب خاصة الوصفي. ربع الرواية تقريبًا تصف أشياء لا تضيف شيئًا إلى الرواية ولا حتى على سبيل الخداع. مجرد وصف متكرر بلا طائل لأماكن أو مشكلات تمت بالفعل وصفها ومناقشتها في أكثر من موضع.
لكن الكاتبة ترضي القارئ بنهاية جيدة تعوضه عن كثير من الفجوات في حبكة الرواية
الرواية جيدة لكنها ليست بوليسية. هي رواية تجمع بين الإثارة والغموض وبعض الجوانب الإنسانية الاجتماعية.
تقييمي للرواية ثلاث نجوم
أحمد فؤاد الرابع من تشرين الأول - أكتوبر 2024 ...more
في قلب الضباب تختبئ الحقائق. يتلاشى وضوحها. يبهت أثرها. ويتوه الباحث عنها وسط دوامة الالتباس، فيغوص في لُجّةٍ من الحيرة والبلبلة في إثر ملاحقة بريق ال في قلب الضباب تختبئ الحقائق. يتلاشى وضوحها. يبهت أثرها. ويتوه الباحث عنها وسط دوامة الالتباس، فيغوص في لُجّةٍ من الحيرة والبلبلة في إثر ملاحقة بريق الحقيقة المُضمحل.
مُراجعتي الكاملة والتفصيلية بشكل مُنسّق مع الصوّرعلى موقع عالم موازٍ على هذا الرابط
الغموض سيد الموقف
منذ اللحظة الأولى التي يستيقظ فيها بطل الرواية "أمبيرج" يصف حالته بأنها عبارة عن شعور بالوعي المُسربل بالغموض. ومنذ تلك اللحظة نشاركه رحلته في محاولات البحث في دهاليز ذاكرته من أجل أن نفهم كيف وصل إلى هذا المستشفى التي استيقظ فيها.
رويدًا رويدًا ومع غوصنا في التفاصيل الغريبة، تتلبّسنا حالة من الريبة والدهشة والتعجب في هذه الرحلة. وخلف الضباب الذي يلف القرية نعيش في عالم قوطي غارق في الغموض. بصحبة بارون إقطاعي وعالمة وأمير وطبيب وناظر عزبة من أصول نبيلة وقصر وفلاحين
ورغم هدوء أحداث الرواية وميلها للأسلوب المسرحي في بعض المواضع (كُتبت عام 1933) إلا أنها جاءت مثيرة ومشوقة. فالقارئ حتى الصفحات الأخيرة في الرواية لا يزال يبحث عن الحقيقة ويحاول ربط الأحداث، بل وربما يقرر أن يختار لنفسه نهاية أخرى غير التي انتهت إليها الرواية!
إسقاطات... إسقاطات... إسقاطات
إن الإثارة الحقيقة في رأيي تقبع بين السطور وخلف الستار الكثيف من الإسقاطات المترعة في الرواية. فالكتاب مليء بالإسقاطات السياسية والدينية حتى النُخاع. رُبما لن ينتبه لهذه الإسقاطات قارئ زمننا المُعاصر، لكن يجب أن ندرك السياق التاريخي الذي كُتبت فيه الرواية، والتي كُتبت عام 1933.
الإسقاط الأول هو القرية المُغلفة بالضباب والذي قصد بها الكاتب الدولة الألمانية بزعامة هتلر.
والإسقاط الثاني هو البارون والذي قصد به الكاتب شخصية هتلر ودورها بأفكاره وطموحه وجنونه.
والإسقاط الثالث كيفية استخدام السياسة للدين أو بالأحرى لخصائص الإيمان وتأثيره على البشر، ودوره في خلق إيديولوجيا متطرفة. ولأنني لا أريد أن أحرق أحداث الرواية، أنصح القارئ بإعادة قراءة الربع الأخير منها والانتباه إلى مضمون الحوارات، وذلك بعد وضع الإسقاطات التي ذكرتهم في اعتباره. ولا عجب إن عرفنا -بعد إلمامنا بتلك الإسقاطات- أن الرواية مُنعت في ألمانيا فور نشرها.
لا أنكر أنني مندهش من تشابه الطرق -باختلاف المُسمّيات- التي تستثار بها الجموع وتؤثر في حماسته وقراراته والتي نجدها بشكل مُفصل في عشرات الكُتب التي كتبت عن هذا الأمر لعل من أشهرها كتاب "المؤمن الصادق" لإريك هوفر (صدر عام 1951) وكتاب "سيكولوجية الجماهير" لغوستاف لوبون. (صدر عام 1895)
السرد...
يملك ليو بيروتس قلمًا رائعًا، ولديه قُدرة عجيبة على تطويع الكلمات من أجل خلق تناغم بين الجُمل والفقرات. ربما لم تكن الأحداث سريعة، لكنها جاءت ملائمة جدًا للزمن المكتوب فيه الرواية بالإضافة إلى مناسبتها لزمن الأحداث. وربما لن يلحظ القارئ أي بُطء في الأحداث بسبب مهارة الكاتب في تهيئة بيئة من الغموض نابعة من النص. خلق هذا الغموض نوع من الترقّب في نفس القارئ الذي سيصل إلى مشارف النهاية التي ربما لم يكن يتوقعها.
ليس غريبًا على الإطلاق أن يتحمّس لليو بيروتس، الكاتب لويس بورخيس ويصفه كأعظم كُتّاب الأدب الغرائبي في عصره، ويسعى إلى ترجمة أعماله، باعتباره مؤسس الواقعية السحرية في ثوبها الشرق أوروبي. وأيضًا ليس غريبًا أن يصف كُتَّابٌ بثِقَل إيتالو كالفينو وألفريد هيتشكوك وفريدريش دورينمات بأنهم من كبار مُعجبيه.
الترجمة
لم أكن لأستمتع بسرد مثل سرد ليو بيروتس بدون ترجمة مُتمكّنة وقادرة على إبقاء جذوة ترقّبي مُشتعلة. أعجبني اختيار المُترجم لأغلب الألفاظ، وإجادته في تركيب الجُمل. وأنا أعرف أن الترجمة من الألمانية ليس أمرًا سهلًا. ربما رأيت أن هناك بعض الألفاظ كانت لتُعبّر عن المعنى بشكل أفضل في سياق الرواية على سبيل المثال كلمة "عقيدة" بدلًا من "إيمان"، لكنني قد أتفهّم سبب تفضيل المُترجم للكلمة الأخيرة وذلك لإبقاء المدلول قابلًا للمقارنة بين الجانب الديني والجانب السياسي مثلما أراد الكاتب ليو.
ترجم الرواية المُترجم المصري أحمد الزناتي، وأرى أنه قام بعمله ببراعة يستحق عليها الإشادة.
اقتباسات
لماذا يختفي الإيمان بالله في العالم؟ - لا يختفي، وإنما تختفي جذوة الإيمان به
لكل عصر إيمانه، وإيمان يومنا هذا هو الثورة. وهل الثورة إيمان؟ الحلم بإعادة تنظيم العالم بطرق عنيفة. أليس لهذا الإيمان إنجيله وأساطريه ومُعتقداته وكهنته وأحزابه وشهوداؤه وجنّته كأنه نوع آخر من الإيمان؟ ألا تُهرَق أنهار الدماء جميع أرجاء الأرض انتصارًا لهذا الإيمان؟
التقييم النهائي
بين اليقين والارتياب يعيش الإنسان حياته، ووسط طوفان من الحقائق الزائفة يكتشف أنها لم تكن سوى أكاذيب عليه فقط أن يختار منها ما يصدّقها!
رواية "حبل الروح" (اسمها الأصلي: ثلج القديس بطرس) للكاتب التشيكي النمساوي "ليو بيروتس" – رواية قصيرة قوطية مُتقنة مليئة بالغموض ومُفخّخة بالشكّ بأسلوب سردي مُمتع لمن يهوى هذه الأجواء. ومع ترجمة سلسة بليغة؛ من الصعب ألا تكون هذه الرواية على قائمة قراءة أي قارئ.
تقييمي 4 نجوم
معيار التقييم: نجمة = لم يعجبني - نجمتان = مقبول - 3 نجوم = أعجبني -4 نجوم = أعجبني بشدة - 5 نجوم = استثنائي